قال الإمَامُ ابن عثيمين (رَحِمَهُ اللهُ): قَوْلُهُ: (تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)؛ يعني: تُصَلي وكأنك ترى الله عز وجل، وتزكي وكأنك تراه، وتصوم وكأنك تراه، وتحج وكأنك تراه، تتوضأ وكأنك تراه، وهكذا بقية الأعمال. وكون الإنسان يعبد الله كأنه يراه دليلٌ على الإخلاص لله عز وجل، وعلى إتقان العمل في متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن كل مَنْ عبدَ اللهَ على هذا الوصف، فلا بد أن يقع في قلبه من محبة الله وتعظيمه ما يَحمله على إتقان العمل وأحكامه؛ ( شرح رياض الصالحين - لابن عثيمين - جـ1 - صـ480).
من أقوال السلف الصالح في المراقبة:
(1) قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَيُلْقِي اللَّهُ لَهُ الْبُغْضَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ ( جامع العلوم والحكم - لابن رجب الحنبلي - صـ 162).
(3) قال ابن المبارك (رَحِمَهُ اللهُ) لرجل: راقبْ الله تعالى، فسأله عن تفسيره، فقال: كن أبدًا كأنك ترى الله عز وجل؛ ( إحياء علوم الدين - للغزالي - جـ4 - صـ 397).
(4) قَالَ ابنُ القيم (رَحِمَهُ اللهُ): الْمُرَاقَبَةُ: دَوَامُ عِلْمِ الْعَبْدِ وَتَيَقُّنِهِ بِاطِّلَاعِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَاسْتَدَامَتُهُ لِهَذَا الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ هِيَ الْمُرَاقَبَةُ، وَهِيَ ثَمَرَةُ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ، سَامِعٌ لِقَوْلِهِ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِهِ كُلَّ وَقْتٍ وَكُلَّ لَحْظَةٍ، وَكُلَّ نَفَسٍ وَكُلَّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين؛ ( مدارج السالكين - لابن القيم - جـ2 - صـ65 ).
فوائد مراقبة الله تعالى:
نستطيع أن نوجز فوائد استحضار مراقبة الله للمسلم في الأمور التالية:
(1) الْمُرَاقَبَةُ تجعلُ المسلمَ يَصِلُ إلى درجة الإحسان الذي يُعتبرُ علامة كمال الإيمان.
(2) الْمُرَاقَبَةُ تضمنُ للمسلم رضا الله تعالى عنه في الدنيا، ودخول الجنَّة يوم القيامة.
(3) المراقبة تساعد على غض البصر: سُئِلَ الْجُنَيْدُ (رَحِمَهُ اللهُ) بِمَ يُسْتَعَانُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ؟ قَالَ بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنْظُرُهُ؛ ( جامع العلوم والحكم - لابن رجب الحنبلي - صـ 162).
(4) المراقبة سبب الفوز بظل عرش الله يوم القيامة: روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، ( فَذَكَرَ مِنْهُم ) وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ؛ ( البخاري - حديث: 1423 / مسلم - حديث: 1031 ).
(5) المراقبة تذكِّر المسلم بالموت: استحضار المسلم لمراقبة الله تعالى له في جميع أقواله وأفعاله، يجعل المسلم يتذكر الموت وشدته، فيُقبل على طاعة الله ويتجنب معصيته، فقد قال سُبحانه: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19]، قال الإمامُ ابنُ كثير (رَحِمَهُ اللهُ): يَقُولُ تَعَالَى: وَجَاءَتْ - أَيُّهَا الْإِنْسَانُ - سَكْرَةُ (شِدَّةُ) الْمَوْتِ بِالْحَقِّ؛ أَيْ: كَشَفَتْ لَكَ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي كُنْتَ تَمْتَرِي فِيهِ، (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)؛ أَيْ: هَذَا هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ قَدْ جَاءَكَ، فَلَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ، وَلَا فِكَاكَ وَلَا خَلَاصَ؛ (تفسير ابن كثير - جـ7 - صـ399).
وقال جَلَّ شأنه: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 83 - 85]، قال الإمامُ ابنُ كثير (رَحِمَهُ اللهُ) قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ)؛ أَيْ: إِلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُكابده مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ؛ ( تفسير ابن كثير - جـ7 - صـ548 ).
(7) المراقبة تجعل المسلم أمينًا: نهى أميرُ المؤمنين عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عن مذقِ (خَلْط) اللَّبن بِالْمَاءِ، فخرج ذَات لَيْلَة فِي حَوَاشِي الْمَدِينَة، فَإِذا بامرأة تَقول لابنة لَهَا: أَلا تمذقين (تخلطين) اللَّبن، فَقَالَت الْجَارِيَة: كَيفَ أمذق وَقد نهى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن المذق، فَقَالَت الأم: قد مذق النَّاس فامذقي، فَمَا يدْرِي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَت الفتاة: إِن كَانَ عمر لَا يعلم فإله عمر يعلم، مَا كنت لأفعله وَقد نهى عَنهُ، فَوَقَعت مقالتها من عمر، فَلَمَّا أصبح دَعَا عَاصِمًا ابْنه، فَقَالَ: يَا بني اذْهَبْ إِلَى مَوضِع كَذَا وَكَذَا، فاسأل عَن الْجَارِيَة ووصفها لَهُ، فَذهب عَاصِم فَإِذا هِيَ جَارِيَة من بني هِلَال، فَقَالَ: لَهُ عمر: اذْهَبْ يَا بني فَتَزَوجهَا فَمَا أحراها أَن تَأتي بِفَارِس يسود الْعَرَب، فَتَزَوجهَا عَاصِم بن عمر، فَولدت لَهُ أم عَاصِم بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، فَتَزَوجهَا عبدالْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم، فرزَقه الله تعالى منها عمر بن عبدالعزيز الخليفة العادل؛ ( سيرة عمر بن عبدالعزيز - لابن عبدالحكم - صـ19: صـ20 ).
(8) المراقبة تجعل المسلم متسامحًا مع الناس: كان أبو حنيفة (رَحِمَهُ اللهُ) يبيع الخز (الحرير)، فجاءه رجلٌ فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز، فقال: ما لونه؟ فقال: كذا وكذا، فقال له: اصبر حتى يقع وآخذه لك إن شاء الله، فما دارت الجمعة حتى وقع فمر به الرجل، فقال له أبو حنيفة: قد وقعت حاجتك، فأخرَج إليه الثوب فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزِن للغلام؟ قال: درهمًا، قال: يا أبا حنيفة، ما كنت أظنُّك تهزأ، قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين دينارًا ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين دينارًا، وبقِي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق؛ (تاريخ بغداد - للخطيب البغدادي - جـ13 - صـ362).