كذلك جعلنا في كلِّ قرية عظماءَها مجرميها؛ يعني: أهلَ الشرك بالله والمعصيةِ له ﴿ لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ [الأنعام: 123] بغرورٍ من القول، أو بباطل من الفعل بدينِ الله وأنبيائه ﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنعام: 123]: أي: ما يحيقُ مكرُهم ذلك إلا بأنفسهم؛ لأن اللهَ تعالى ذكرَه من وراء عقوبتِهم على صدِّهم عن سبيله، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123] ؛ يقول: لا يدرون ما قد أعدَّ الله لهم من أليمِ عذابه، فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادون[3].
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [الزخرف: 31، 32]؛ يعنون: لولا نُزِّل هذا القرآن على رجلٍ عظيم كبيرٍ مُبجَّل في أعينهم ﴿ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ ﴾؛ أي: مكة والطائف.
(د) مبدؤهم وعقيدتُهم وجزاؤهم على ما سوَّلت لهم أنفسهم:
﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 35]؛ أي: افتخروا بكَثْرة الأموالِ والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليلٌ على محبَّة الله لهم، واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيَهم هذا في الدنيا، ثم يُعذِّبَهم في الآخرة، وهيهاتَ لهم ذلك! قال الله: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]، وقال: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55]، وقال تعالى: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴾ [المدثر: 11 - 17].
وقد أخبر الله عن صاحبِ تلك الجنَّتين: أنه كان ذا مالٍ وولد وثمرٍ، ثم لم تُغْنِ عنه شيئًا، بل سُلِب ذلك كلُّه في الدنيا قبل الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ [سبأ: 36]؛ أي: يعطي المالَ لمَن يُحبُّ ومن لا يُحبُّ، فيُفقِر مَن يشاءُ ويُغني مَن يشاء، وله الحكمةُ التامَّة البالغةُ، والحجَّة الدَّامغة القاطعة ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: