ابتلاؤك عظيم، وهمك قديم، وأنت ما زلت تدعو ووضعك كما هو، ولكن - رحمك الله - لا تقل: دعوت، دعوت ولم يُستجَب لي، ولنتحدث قليلًا بشيء من الحكمة، كلنا نعلم أن الدعاء هو العبادة، وأن هناك شروطًا للدعاء المستجاب، وقد سبق الحديث عن ذلك، ولكني هنا سأتناول الموضوع من زاوية أخرى بمشيئة الله:
هو لم يأمرك بالدعاء كي يتعرف على حاجاتك فهو يعلمها جل في علاه؛ فلقد أعطاك كل ما تملك من غير أن تطلب.
لقد أمرك مولاك بالدعاء - فرج الله لك - كي تتقرب إليه وتتعرف عليه، وتصل لأعلى درجة أرادها لك؛ وهي درجة الإحسان، لتحصل على رضوانه فتسعد بالدارين، ثم إنه سنَّ الابتلاء بالمصائب تارةً وبالنعم تارةً أخرى؛ اختبارًا لإيمانك لتعرف مستوى إيمانك، وتشتغل على تعديله وترقيته، وتصل "للوزنية" المطلوبة من الحب والخوف والرجاء؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، فمن حكمته ورحمته أن يبين لك كيف تنجح بالاختبار بتفوق؛ لذلك أنزل كتابه الكريم وبعث نبيه الأمين، خاصة وأن هناك شيطانًا هدفه وهمه وسعيه كله أن يجعلك ترسب كما رسب هو، ولكن لا بد من الممارسة العملية بالإضافة لقراءة الكتاب الكريم والسنة المطهرة؛ لذلك تحتاج أن تقع في الابتلاءات والمصائب كي تدرك عيانًا فيقينًا مدى ضعفك أمام عظمته جل في علاه.
وقد يجوز لنا أن نقول - والله أعلى وأعلم - أن هذا يشبه الدراسة العلمية الأصيلة التي لا بد أن تعتمد على شقين كي تحقق أهدافها: شقٍّ نظري، وشق عملي، لتستقر النتائج في العقل والوجدان، وتظهر على السلوك بكل وضوح، ولنبدأ بالتأسيس لهذه الحقيقة: قال ربنا تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)) معيةً كما يليق بجلاله وكماله، لقد كان بإمكانه أن يأمرنا بعبادته، ثم يتركنا، ولا ينظر إلينا، بما أننا حقًّا لا شيء؛ إذ إننا خُلقنا من لا شيء، أضِف إلى أن الله لا مُكره له، ولكنه أراد أن يجعل من هذا اللاشيء شيئًا عظيمًا، وذلك بأمره بالمداومة على ذكره جل في علاه، ولهذا قال: ((أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه)) معيةً تقتضي التوفيق والتسديد.
ومع أنه جعل لعبده ملائكةً يحرسونه ويصلون عليه ويدعون له آناء الليل وأطراف النهار، ولكنه أراد فوق ذلك أن يطمئن عبده ويكرمه، ويسعده بمعيته هو بنفسه - تقدست أسماؤه وجل ثناؤه – فقال: ((أنا مع عبدي …))، وغير ذلك من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي يؤكد فيها أنه يحب عباده الطائعين - نسأل الله أن يجعلنا منهم - وينظر إليهم، ويتودد إليهم، ويستمع لهم، ويرحمهم، ويلطف بهم، ويستجيب لهم، ويعطيهم، ويلهمهم، ويشفيهم، ويحفظهم، وينصرهم، ويغفر لهم، بل ويفرح بتوبتهم، ويشكرهم، ويجبرهم، ويكره ما يسوؤهم، خاصة عند قبض أرواحهم، ويباهي بهم الملائكة، ويبشرهم بالحياة الطيبة في الدنيا، وبجِنانه وعظيم عطائه في الآخرة، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله.
وهنا لا بد أن نقول: إن الله يحب لعباده جميعًا الخير، ويحب توبة عباده جميعًا إليه، ويفرح بها، ويدعوهم إليها.
أما الدعاء فهو من الأشياء التي تجعلنا نتعرف على ربنا أكثر، وكلما عرفناه أكثر، ثبتنا في وجه المصاعب، ونجحنا عند الابتلاءات، فحين ندعوه ويستجيب، نعلم حق اليقين أنه موجود، ونوقن بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا تبارك وتعالى، علاوةً على أن إيماننا يزيد باستجابته لدعائنا، وبالتالي يزيد عملنا الصالح، وهذا ما يجعل من أولويات الشيطان أن يصرفنا عن الدعاء بطرقه الكثيرة الماكرة، وكيف لا وهو يعلم أن الدعاء حبل ممدود يصِلنا بربنا من مصلحته أن يقطعه؟ وسأكتفي بذكر وسيلتين من وسائله: الأولى: دعوته إلى الاكتفاء بالصلاة على النبي اللهم صل عليه، بدل الدعاء، والثانية: الاكتفاء بترديد كلمة التوحيد أي التهليل للحصول على ما نريد، زاعمًا أن هذا يقوم مقام الدعاء فيُغني عنه.