منزلة الإنفاق في سبيل الله استجلابا لهداه أ. د. فؤاد محمد موسى منزلة الإنفاق في سبيل الله استجلابًا لهداه "وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
لقد استوقفتني كلمة الإنفاق في هذه الآية الكريمة، تلك الآية التي تحدد أن الله وحده دون كل البشر، هو سبحانه بيده هداية الناس، فالهدى بيد الله يعطيه من يشاء، ممن يعلم - سبحانه - أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه، وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر، وهذه الحقيقة لا بد أن تستقرَّ في حس المسلم؛ ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقَّى دلائل الهدى من الله وحده.
ومن هنا نطَّلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها، ويروِّضهم عليها، ولا يفوتنا أن نُدرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون.
أولًا: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ:
فهذا الإنفاق من خير ما لدى المسلم كما جاء في قوله تعلى أيضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 267 - 269]، وهنا يُؤتى المسلم الحكمة ويرتقي إلى درجة أولي الألباب.
ثانيًا: وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله:
إن هذا هو شأن المؤمن الصادق في سعيه إلى هداية الله له، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هوى ولا عن غرض، لا ينفق وهو يلتفت للناس، يرى ماذا يقولون! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه، ويتعالى عليهم ويشمخ! لا ينفق ليَرضى عنه ذو سلطان، أو ليُكافئه بنيشان! لا يُنفق إلا ابتغاء وجه الله، خالصًا متجردًا لله، ومن ثَم يطمئن لقبول الله لصدقته، ويطمئن لبركة الله في ماله، ويطمئن لثواب الله وعطائه، ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله، ويرتفع ويتطهَّر، ويزكو بما أعطى، وهو بعد في هذه الأرض، وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل!
والآيات التالية تؤكد أن هداية الله لا تكون إلا لمن تصدق إرادته لطلب الهداية قلبيًّا ويصدقها عمله؛ ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].
وتجدر الإشارة هنا أن هذا الإنفاق في سبيل الله بخلاف الزكاة المفروضة؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
فالذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ويتصلوا به، الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا، فلم ينكصوا ولم ييئَسوا، الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس، الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب، أولئك لن يتركَهم الله وحدَهم، ولن يُضيع إيمانهم، ولن يَنسى جهادهم، إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضيهم، وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم، فحب الإنسان للمال حبًّا جمًّا،حبًّا كثيرًا مع حرص وشَره؛ ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20].
وقد كان من أسباب الردة بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رفض بعض القبائل دفع الزكاة؛ لذلك جعل الله ابتلاء الإنسان في ماله مقدَّمًا على ابتلائه في نفسه؛ ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186]، لذلك جاء إنفاق المال في درجة متقدمة في مقياس التقوى والبر؛ ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
فعلى المسلم الذي يريد أن يهديه الله أن يبذل من طيب ماله بنفس راضية مبتغيًا وجه الله، حينها يجد توجيه الله له لكل خير في حياته، ويهديه الله سواء السبيل، ومِن ثَم تَشعُر نفسه بمعية الله له، ويَفتح الله له أبوابَ كلِّ عمل صالح، ويوفِّقه الله في سعيه ما دام يبتغي به وجهَ الله، فيا سعادته وهنائه؛ حيث تُصبح نفسه مطمئنة.
وبطبيعة الحال لا يَشعُر بهذا إلا من عاش ذلك في حياته، وذاق لذتها وحلاوتها في نفسه، وعلى النقيض من هذا هناك مَن يبخل، والمال مال الله؛ ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180].
وهناك أصحابُ المليارات الذين ينفقونها في البزخ واللهو، ولا يبخلون بها على أعداء الله، وما أحوج أهل غزة لهذا الإنفاق في هذه الآونة؛ حيث تَعجِز الكلمات عن هذا الاحتياج، والحصار والتجويع والإبادة الجماعية، وهنا تستحضرني آيات الإنفاق في سورة البقرة، وتأثيرها في نفس المؤمن؛ ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265].