سلطان الزين
19-Jun-2025, 02:43 PM
{ ومأواهم النار }
د. خالد النجار
﴿ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾
يقول تعالى في سورة آل عمران: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 151].
﴿ سَنُلْقِي ﴾: سنقذف.. بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ من الغيبة، في قوله: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150] جريًا على سَنن الكبرياءِ لتقوية المهابةِ.
قال ابن عثيمين: "وعبَّر عن نفسه تعالى بفعل يقتضي الجمع مريدًا بذلك التعظيم (أي: سنلقي نحن)، ولا يمكن أن يُراد به إلا ذلك؛ لأن الله واحد ليس متعددًا، فلا يمكن أن يكون معه أحد بخلاف غيره، فإنك إذا قلت لشخص: سنأتيك، يحتمل أنك أردت التعظيم، ويحتمل أنك أردت الجمع، أما بالنسبة لله عز وجل فلا يمكن أن يراد الجمع الذي هو التعدُّد وإنما يراد به التعظيم.
ويدل لهذا قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12]، فالله سبحانه وتعالى هو الملقي لكنه يذكر نفسه تعالى أحيانًا بصيغة الإفراد؛ لأنه واحد، وأحيانًا بصيغة الجمع؛ لأنه عظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويحتمل أنه يذكر نفسه بصيغة الجمع لما له من الجنود العظيمة التي لا يعلمها إلا هو، فيكون هذا إشارة إلى أنه ذو عظمة وسلطان وجنود تفعل ما يأمر به جلَّ وعلا".
والسين تدخل على الفعل المضارع وتفيد أمرين: القرب، والتحقيق.. وهي تفيد القرب من وجه، وتفيد التحقيق من وجه آخر، بخلاف «سوف» فإنها تفيد التحقيق، وتفيد الإمهال؛ ولهذا تكون «سوف» للتسويف والسين للتنفيس؛ أي: القرب.
والإلقاء حقيقته: رمي شيء على الأرض ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ﴾ [الشعراء: 44]، أو في الماء ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7]، ويطلق على الإفضاء بالكلام: ﴿ يُلْقُونَ السَّمْعَ ﴾ [الشعراء: 223]، وعلى حصول الشيء في النفس كأنَّ ملقيًا ألقاه؛ أي: من غير سبق تهيُّؤ ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ﴾ [المائدة: 64]، وهو هنا مجاز في الجعل والتكوين؛ كقوله: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [الأحزاب: 26].
﴿ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ قدَّم المجرور على المفعول به؛ اهتمامًا بذكر المحلِّ قبل ذكر الحَال.
﴿ الرُّعْبَ ﴾ أشد الخوف.. وأصله من الملء مع الاضطراب، يقال: سيل راعب، يملأ الوادي ويضطرب به، ورعبت الحوض ملأته، والمعنى: سنملأ قلوب المشركين خوفًا وفزعًا.
ومن حكمته تعالى أن رتَّب على الأمور الخبيثة آثارًا خبيثة، فإن الشرك لما كان اعتقاد تأثير ممن لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرب النفس، متحيرًا في العاقبة في تغلب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكل قوم صنم هم أخص به، وهو في تلك الحالة يعتقدون أن ليس لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة. فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة، كما لا يزال أتباعهم كذلك، والذين حالهم كما وصفنا لا يستقر لهم قرار في الثقة بالنصر في حروبهم؛ إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها.
إنما يذكر الله عز وجل أنه يلقي الرعب في القلب؛ لأن القلب إذا دخله الرعب فإنه لا يمكن أن يثبت البدن، ولو ثبت البدن أو حاول الإنسان الثبات فإن قلبه من شدة الرعب سوف يحمله عن الأرض حملًا ويفر ولا يمكن أن يبقى، فالرعب أقوى سلاح يكون على العدوِّ، فإذا ألقى الله الرعب في قلوب العدوِّ؛ فإنه لن يبقى.
وهذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ.
قيل: هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أُحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. وأن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة- وكانوا في بعض الطريقِ- ندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئًا، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك ألقى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم.
وقيل: إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام.
قال القفَّالُ: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُدٍ، إلا أنَّ اللهَ تعالى سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهرًا لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ))؛ [البخاري].
د. خالد النجار
﴿ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾
يقول تعالى في سورة آل عمران: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 151].
﴿ سَنُلْقِي ﴾: سنقذف.. بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ من الغيبة، في قوله: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150] جريًا على سَنن الكبرياءِ لتقوية المهابةِ.
قال ابن عثيمين: "وعبَّر عن نفسه تعالى بفعل يقتضي الجمع مريدًا بذلك التعظيم (أي: سنلقي نحن)، ولا يمكن أن يُراد به إلا ذلك؛ لأن الله واحد ليس متعددًا، فلا يمكن أن يكون معه أحد بخلاف غيره، فإنك إذا قلت لشخص: سنأتيك، يحتمل أنك أردت التعظيم، ويحتمل أنك أردت الجمع، أما بالنسبة لله عز وجل فلا يمكن أن يراد الجمع الذي هو التعدُّد وإنما يراد به التعظيم.
ويدل لهذا قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12]، فالله سبحانه وتعالى هو الملقي لكنه يذكر نفسه تعالى أحيانًا بصيغة الإفراد؛ لأنه واحد، وأحيانًا بصيغة الجمع؛ لأنه عظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويحتمل أنه يذكر نفسه بصيغة الجمع لما له من الجنود العظيمة التي لا يعلمها إلا هو، فيكون هذا إشارة إلى أنه ذو عظمة وسلطان وجنود تفعل ما يأمر به جلَّ وعلا".
والسين تدخل على الفعل المضارع وتفيد أمرين: القرب، والتحقيق.. وهي تفيد القرب من وجه، وتفيد التحقيق من وجه آخر، بخلاف «سوف» فإنها تفيد التحقيق، وتفيد الإمهال؛ ولهذا تكون «سوف» للتسويف والسين للتنفيس؛ أي: القرب.
والإلقاء حقيقته: رمي شيء على الأرض ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ﴾ [الشعراء: 44]، أو في الماء ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7]، ويطلق على الإفضاء بالكلام: ﴿ يُلْقُونَ السَّمْعَ ﴾ [الشعراء: 223]، وعلى حصول الشيء في النفس كأنَّ ملقيًا ألقاه؛ أي: من غير سبق تهيُّؤ ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ﴾ [المائدة: 64]، وهو هنا مجاز في الجعل والتكوين؛ كقوله: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [الأحزاب: 26].
﴿ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ قدَّم المجرور على المفعول به؛ اهتمامًا بذكر المحلِّ قبل ذكر الحَال.
﴿ الرُّعْبَ ﴾ أشد الخوف.. وأصله من الملء مع الاضطراب، يقال: سيل راعب، يملأ الوادي ويضطرب به، ورعبت الحوض ملأته، والمعنى: سنملأ قلوب المشركين خوفًا وفزعًا.
ومن حكمته تعالى أن رتَّب على الأمور الخبيثة آثارًا خبيثة، فإن الشرك لما كان اعتقاد تأثير ممن لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرب النفس، متحيرًا في العاقبة في تغلب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكل قوم صنم هم أخص به، وهو في تلك الحالة يعتقدون أن ليس لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة. فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة، كما لا يزال أتباعهم كذلك، والذين حالهم كما وصفنا لا يستقر لهم قرار في الثقة بالنصر في حروبهم؛ إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها.
إنما يذكر الله عز وجل أنه يلقي الرعب في القلب؛ لأن القلب إذا دخله الرعب فإنه لا يمكن أن يثبت البدن، ولو ثبت البدن أو حاول الإنسان الثبات فإن قلبه من شدة الرعب سوف يحمله عن الأرض حملًا ويفر ولا يمكن أن يبقى، فالرعب أقوى سلاح يكون على العدوِّ، فإذا ألقى الله الرعب في قلوب العدوِّ؛ فإنه لن يبقى.
وهذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ.
قيل: هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أُحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. وأن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة- وكانوا في بعض الطريقِ- ندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئًا، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك ألقى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم.
وقيل: إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام.
قال القفَّالُ: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُدٍ، إلا أنَّ اللهَ تعالى سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهرًا لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ))؛ [البخاري].